فصل: قال عبد الكريم الخطيب:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال عبد الكريم الخطيب:

قوله تعالى: {يا أيُّها الّذِين آمنُوا إِنّ مِنْ أزْواجِكُمْ وأوْلادِكُمْ عدُوّا لكُمْ فاحْذرُوهُمْ وإِنْ تعْفُوا وتصْفحُوا وتغْفِرُوا فإِنّ الله غفُورٌ رحِيمٌ}..
هو دعوة للذين استجابوا لله ولرسوله، فآمنوا، أن يعطوا هذا الإيمان حقّه..
فإنه لا يكفي أن يؤمنوا دون أن يحرسوا هذا الإيمان من الآفات الكثيرة التي تعرض له، وتفسده، أو تذهب به جملة..
ومن هذه الآفات، الفتنة بالزوج والولد.. حيث هما اللذان يملآن عواطف الإنسان، ويستوليان على مشاعره، وبهذا يكون لهما تأثير بالغ عليه، في مجال الصلاح والفساد جميعا.. إن الزوج والولد، أشبه بالأعضاء العاملة في الجسد، فإن كانا صالحين، سلم الجسد، واقتدر على أداء وظيفته كاملة، وإن كانا فاسدين، عجز الجسد عن أن يقوم بما هو مطلوب منه، بقدر ما فيهما من فساد..
وفي القرآن الكريم، أمثله وشواهد كثيرة لهذا..
فامرأة نوح وابنه، كانا على خلاف معتقده في الله.. هو رسول الله، مؤمن به، داع إليه، وامرأته وولده كافران بالله، يقفان من نوح موقف عداوة ومنابذة..
وإنه ليس أشقّ على الإنسان من أن يكون أعداؤه بعضا من كيانه..
إن عداوة الغرباء تخفّ وتهون، إزاء عداوة ذوى القربى.. وإن أقسى العداوات وأمرّها لهى عداوة أقرب الأقربين، وألصقهم بالإنسان جسدا، وروحا، ومشاعر..
وفي هذا يقول الشاعر الجاهلى (طرفة بن العبد):
وظلم ذوى القربى أشدّ مضاضة ** على النفس من وقع الحسام المهند

فقوله تعالى: {إِنّ مِنْ أزْواجِكُمْ وأوْلادِكُمْ عدُوّا لكُمْ}- هو إلفات إلى ما قد يكون من خلاف بين المؤمن وبين زوجه وولده في مجال العقيدة.. ذلك الخلاف الذي كثيرا ما تغطى عليه مشاعر الحب، والعطف، فلا يكاد يشعر المؤمن بما يدخل على إيمانه من ضيم وجور إذا هو استسلم لزوجه أو ولده، وأصغى إلى ما يلقيان إليه من زور وبهتان..
ولهذا جاء قوله تعالى: {فاحْذرُوهُمْ} حتى يكون المؤمن دائما، على حذر، وانتباه من هذه الرياح المسمومة التي تهب عليه من أقرب الناس إليه..
والعداوة التي ترد على الإنسان من جهة الزوجة أو الولد، ليست عداوة ذاتية له، وإنما هي عداوة متولدة عن فعل يجيء من قبل الزوجة أو الولد.. فإذا فعلت الزوجة فعل العدو فهي عدوّ، وإذا فعل الولد فعل العدو، فهو عدو..
وإنه لا عدوّ أبلغ في عداوته، وأشد في كيده، وأعظم في ضرره- ممن يحول بين المرء وبين طاعة ربه..
روى البخاري، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الشيطان قعد لابن آدم في طريق الإيمان، فقال له: أتؤمن وتذر دينك ودين آبائك؟ فخالفه، فآمن.. ثم قعد له على طريق الهجرة، فقال له: أتهاجر، وتترك مالك وأهلك؟ فخالفه فهاجر.. ثم قعد له على طريق الجهاد، فقال له: أتجاهد، فتقتل نفسك، فتنكح نساؤك ويقسم مالك؟.. فخالفه، فجاهد، فحقّ على الله أن يدخله الجنة»..
وقوله تعالى: {وإِنْ تعْفُوا وتصْفحُوا وتغْفِرُوا فإِنّ الله غفُورٌ رحِيمٌ}..
هو دعوة إلى الرّفق في الحذر، والتلطف في لقاء المكروه الذي يجيء إلى المؤمن من زوجه أو ولده.. فإذا كان من واجب المؤمن أن يحذر هذا العدوّ الكامن في أقرب الناس إليه وآثرهم عنده، فإن هذا العدوّ يجب أن ينظر إليه من جانب آخر على أنه صديق، وأن هذه العداوة طارئة، وأنه يمكن أن تعالج هذه العداوة بالحكمة، والحسنى، على ألا يكون ذلك على حساب الدين..
وبهذا يمكن أن يبقى المؤمن على هذين العضوين الفاسدين في جسده، وأن يطبّ لهما، وأن يعمل على إصلاحهما ما استطاع، وألا يعجّل بقطعهما إلا بعد أن يستنفد جميع وسائل العلاج، شأنهما في هذا شأن أعزّ الأعضاء والجوارح في الجسد..
فالعفو، والصفح، والمغفرة.. من المؤمن، لزوجه وولده، الواقعين في موقع الفتنة له في دينه- إنّما هو صبر على الأذى، واحتمال الضرّ، في سبيل الإبقاء على علائق الودّ، ووشائج القربى التي هي من أمر الدين، ومن طبيعة الحياة.. شريطة ألا يكون ذلك- كما قلنا- على حساب الدين.. كما يقول سبحانه فيما بين الولد، والوالدين: {أنِ اشْكُرْ لِي ولِوالِديْك إِليّ الْمصِيرُ وإِنْ جاهداك على أنْ تُشْرِك بِي ما ليْس لك بِهِ عِلْمٌ فلا تُطِعْهُما وصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا معْرُوفا} (14، 15 لقمان).
قوله تعالى: {نّما أمْوالُكُمْ وأوْلادُكُمْ فِتْنةٌ والله عِنْدهُ أجْرٌ عظِيمٌ}.
ومن الفتن التي تعرض للمؤمن، فتنة المال، والأولاد، حيث يطغى حبهما على قلبه، ويأخذ على سمعه وبصره، فلا يرى شيئا غيرهما، ولا يستمع لنداء غير نداء المال والولد، فيصرفه ذلك عن ذكر الله، ويلهيه عن العمل الصالح، ابتغاء مرضاة الله.. وبهذا يضمر إيمانه، وقد يذهب إلى غير عودة! يقول الرسول صلوات الله وسلامه عليه. «تعس عبد الدّينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة. تعس عبد القطيفة، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش».
تعس: أي هلك: والخميصة: كساء أسود له أعلام وخطوط.. والقطيفة، ثوب مزركش ذو أهداب.. وانتكس: أي عاوده المرض..
وشيك: أصابته شوكة.. فلا انتقش، أي فلا خرجت شوكته بالمنقاش وهو الملقط.
إن الفتنة التي تهب على المؤمن هنا، هي فتنة مهبّها ذاته هو، وما يفيض به قلبه من مشاعر الحبّ للمال، والولد..
وأما الفتنة الواردة على المؤمن في قوله: {يا أيُّها الّذِين آمنُوا إِنّ مِنْ أزْواجِكُمْ وأوْلادِكُمْ عدُوّا لكُمْ فاحْذرُوهُمْ} فهى فتنة متسلطة على الإنسان من خارج ذاته، فيما تسوقه إليه زوجه أو ولده من صور الشحناء معه، والخلاف عليه، في الدين الذي يدين به، والذي يباعد الشقة بينه وبينهما.
وقوله تعالى: {الله عِنْدهُ أجْرٌ عظِيمٌ} هو تعويض عن التخفف من من هذا الحبّ الذي يحمله الإنسان في قلبه للمال وللولد، وإيثارهما على حبّ الله والعمل في طاعته.. فالذى عند الله من ثواب، هو خير من الدنيا كلّها..
وفي قوله تعالى: {إِنّ مِنْ أزْواجِكُمْ وأوْلادِكُمْ عدُوّا لكُمْ}.
إشارة إلى أن هذا الحكم ليس على إطلاقه.. لأنه ليس كل الأزواج ولا كل الأولاد تجيء منهم العداوة، وإنما يقع ذلك من بعضهم، ولهذا جيء بمن التي تفيد التبعيض، على حين جاء قوله تعالى: {نّما أمْوالُكُمْ وأوْلادُكُمْ فِتْنةٌ} بدون {من} التبعيضية، لأن الأموال والأولاد فتنة مطلقة، فحيث يكون المال، وحيث يكون الأولاد، فالفتنة بهم قائمة..
يقول الإمام علىّ- كرم الله وجهه ـ: «لا يقولنّ أحدكم: اللهم إنى أعوذ بك من الفتنة، لأنه ليس أحد، إلا وهو مشتمل على فتنة، ولكن من استعاذ فليستعذ بمضلّات الفتن.. فالله سبحانه وتعالى يقول: نّما أمْوالُكُمْ وأوْلادُكُمْ فِتْنةٌ».
قوله تعالى: {فاتّقُوا الله ما اسْتطعْتُمْ واسْمعُوا وأطِيعُوا وأنْفِقُوا خيْرا لِأنْفُسِكُمْ ومنْ يُوق شُحّ نفْسِهِ فأُولئِك هُمُ الْمُفْلِحُون}.
قوله تعالى: {فاتّقُوا الله ما اسْتطعْتُمْ}.. ما تأويله؟ هو رحمة من رحمة الله بعباده، وهم في متلاطم هذه الفتن التي تطلع عليهم من أنفسهم، ومن أهليهم وأقرب الناس إليهم، إنها حرب مشبوبة الأوار دائما، لا يستطيع الإنسان أن يدفعها عن نفسه، أو أن يدفع هو نفسه عنها، إلا إذا اعتصم بمعتصم يعصمه منها.. إذ كيف له بالتخلص من ذاته، ومن نزعات نفسه، ودفعات أهوائه؟ ونفرض أنه استطاع ذلك بعد مشقة وعناء، فكيف له بأن ينخلع عن زوجه وولده؟ إن ذلك لا يكون إلا بالانخلاع عن الحياة الدنيا جملة!! والإسلام دين واقع، ودين رحمة وعدل وإحسان.. لا يرى للناس إلا أنهم بشر تتحكم فيه نوازع، وعواطف، وتعرض لهم عوارض الضعف..
ويلحقهم ما يلحق الكائن الحىّ من جهد وضعف.. ولهذا قامت هذه الشريعة على اليسر، وعلى رفع الحرج، كما يقول سبحانه: {وما جعل عليْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حرجٍ} (78: الحج).. ويقول الرسول الكريم:
«إن هذا الدين يسر فأوغل فيه برفق، وإنه لن يشادّ الدين أحد إلا غلبة».. ويقول الرسول الكريم أيضا.. «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم».
فقوله تعالى: {فاتّقُوا الله ما اسْتطعْتُمْ}.
هو الميزان الذي يقيم عليه المؤمن أمر دينه كله.. وأن يتقى هذه الفتن التي تهب عليه من كل جهة- أن يتقيها بقدر ما يملك من قوة، وما يحتمل من جهد.. والله سبحانه وتعالى يقول:
{لا يُكلِّفُ الله نفْسا إِلّا وُسْعها.. لها ما كسبتْ وعليْها ما اكْتسبتْ}.
فكل نفس لها طاقة من الاحتمال، ولها قدر من القوة، وإنه على قدر طاقتها وقوتها، تحاسب، فتجزى بما كسبت، وعلى ما اكتسبت..
ومن أجل هذا كانت شريعة الإسلام- مع عمومها- تنظر إلى ما في الناس- كأفراد- وإلى ما فيهم من قوة وضعف، فتكلف القوىّ بما لا تكلف به الضعيف..
ونجد مثلا لهذا في نساء النبي، وما لهن من خصوصية، وما عندهن من استعداد لقبول الخير، بما كان لحياتهن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من أثر في مدّهنّ بأمداد عظيمة من الإيمان والتقوى.. ولهذا قام حسابهن عند الله على غير حساب عموم النساء.. ف في مقام الإحسان يضاعف الله لهن الإحسان، فيؤجرن بالحسنة ضعف أجر الحسنة من غيرهن.. فيقول سبحانه: {ومنْ يقْنُتْ مِنْكُنّ لله ورسُولِهِ وتعْملْ صالِحا نُؤْتِها أجْرها مرّتيْنِ وأعْتدْنا لها رِزْقا كرِيما} (31: الأحزاب).. وكذلك الشأن في مقام الإساءة- لو فرض أن تقع منهن سيئة- فيقول جل شأنه: {يا نِساء النّبِيِّ منْ يأْتِ مِنْكُنّ بِفاحِشةٍ مُبيِّنةٍ يُضاعفْ لها الْعذابُ ضِعْفيْنِ وكان ذلِك على الله يسِيرا} (30: الأحزاب)..
وليس هذا في نساء النبي وحدهن، بل إنه في المؤمنين عامة، فقد كلف الله المؤمنين في أول الإسلام، بأن يلقى المسلم منهم في ميدان القتال عشرة من العدوّ، وأن يغلبهم، دون أن ينكل عن لقائهم، أو يفر منهم إذا التقى بهم.. وذلك لما كان في قلوب هؤلاء السابقين إلى الإيمان، من قوة إيمان، ووثاقة دين، بما لم يكن لأحد أن يبلغ هذا المستوي العظيم بعد.. فلما دخل الناس في دين الله أفواجا، وكان كثير من الذين آمنوا دون هذا المستوي، وعلى بعد بعيد منه.
لمّا كان هذا، كان أمر الله للمسلمين في القتال، أن يكون المقاتل منهم في مقابل اثنين من أعدائهم..
ومن هذا ندرك السرّ في تلك التوجيهات التي كان يوجه بها النبي أصحابه حين يسألونه مثلا: أي الأعمال أفضل؟ فيقول لهذا قولا، ولذاك قولا، ولثالث قولا آخر.. وهكذا، حسب ما يرى الرسول الكريم فيهم من قدرة واستعداد، فيوجه كلّ واحد منهم الوجهة التي يصلح لها، ويقدر على السير فيها..
على أن هذا ينبغى ألّا يفهم على غير وجهه السليم، وألّا يتأول تأويلا فاسدا، فيجعل المرء هذه الاستطاعة تكأة يتحلل بها من تكاليف الشريعة، ويتخفف من أوامرها ونواهيها، محتكما في ذلك إلى هواه في تقدير الحدّ الذي تبلغه استطاعته، فيترك الصوم مثلا، لأن الجوع يؤذيه، والعطش يشقّ عليه، أو لأن ترك بعض العادات المتمكنة منه، يفسد تفكيره، ويعلّ جسده.. وقل مثل هذا في كثير من أوامر الدين ونواهيه، حيث يبحث المرء عن مخرج يخرج به منها، وعن علة يتعلل بها، للتحلل من هذا القيد، والفكاك من هذا الالتزام.. إن هذا من شأنه أن يفسد على المرء دينه، ويغتال كل صالحة فيه.
وإن في الشرّ خيارا.. وإنه لخير المرء في هذا المقام أن يترك فريضة من فرائض الله، أو يقصر في أدائها، عن فتور، أو عدم مبالاة- إن ذلك لخير له من أن يكون تركه الفريضة، أو تقصيره في أدائها، ناجما عن فتوى كاذبة خادعة، يفتى بها نفسه، ليتحلل من عقد لله الذي لزمه، من فرائض الشريعة وأحكامها..
إن التكاليف الشرعية لها أعباؤها، ولها مشقاتها، وإنها بغير هذا لا يكون لها ميزان في فعل الطاعات، واجتناب المنبهات، فمن أطاع أمرا، فإنما تكون طاعته عن مغالبة أهواء، ودفع شهوات، ومن انتهى عن منهىّ عنه، كان انتهاؤه عن استعلاء على نزعات، وكبت لرغبات.. وعن هذا الجهد يكون الجزاء.. ولهذا قيل (على قدر المشقة يكون الثواب)..
ثم إن الدين أمانة بين العبد وربه، وإن الوفاء بهذه الأمانة إنما يكون حيث يبذل المرء غاية جهده، ويعطى كل ما عنده، دون إفراط، أو تفريط..
والاحتكام في هذا، إنما هو إلى ضمير المؤمن، وإلى ما يفتيه به قلبه، كما يشير إلى هذا الرسول الكريم في قوله: «استفت قلبك.. وإن أفتاك الناس وأفتوك»!! فإذا أعفى الدين- مثلا- أصحاب الأعذار من الجهاد في سبيل الله، كما يقول سبحانه.. {ليْس على الضُّعفاءِ ولا على الْمرْضى ولا على الّذِين لا يجِدُون ما يُنْفِقُون حرجٌ إِذا نصحُوا لله ورسُولِهِ} (91: التوبة)- إذا بيّن الإسلام هذه الأعذار التي تعفي المسلم من الجهاد، فإن بيان حدود هذه الأعذار من الضعف، والمرض، وضيق ذات اليد في النفقة- إن بيان هذه الحدود، إنما يرجع إلى ضمير المسلم ذاته، إن كان مرضه أو ضعفه يعفيانه من الجهاد أو لا، أو إن كان بين يديه مال خ في أو ظاهر، أو لا.. فتلك أمور لا يعلمها إلّا الله سبحانه، وإلا أصحابها المتصفون بهذه الصفات..
وقوله تعالى: {واسْمعُوا وأطِيعُوا وأنْفِقُوا خيْرا لِأنْفُسِكُمْ}..
هو من تمام التقوى التي أمر الله سبحانه وتعالى بها في قوله جلّ شأنه: {فاتّقُوا الله ما اسْتطعْتُمْ} فإن التقوى في حدود الاستطاعة، مرجعها إلى القلب، وما انعقد عليه من إيمان بالله، ومراقبة لأوامره ونواهيه.. فهذا جانب يمثّل الضلة بين العبد وربه.. وحسابه في هذا على الله.
وهناك جانب آخر من الإنسان فيما يتصل بأوامر الله ونواهيه، وهو الجانب الذي يمسّ المجتمع الذي يعيش فيه، والذي تحكمه أوامر هذا الدين الذي يدين به، وهو الجانب الظاهر، الذي يتمثل في الاستماع لأولى الأمر والطاعة لهم، وتقديم المال المطلوب منه فيما يبدو من ظاهر حاله لولىّ الأمر..
وهذا يعنى ألا يقف المسلم عند قوله تعالى: {فاتّقُوا الله ما اسْتطعْتُمْ} وأن يجعل تقديره لاستطاعته، حكما ملزما لولىّ الأمر.
فإذا دعى من ولى الأمر إلى الجهاد مثلا، فلا يتعلل بأنه مريض، أو ضعيف، وإن كان في الواقع مريضا أو ضعيفا، بل يجب أن يسمع ويطيع، على ما به من مرض أو ضعف.. فإن سمعه وطاعته في تلك الحال شاهدان يظاهران ما هو عليه من مرض أو ضعف، وهذا من شأنه أن يجعل ولىّ الأمر هو الذي يعفيه من الجهاد، ويعزله عن ركب المجاهدين.. أما إذا أبى أن يسمع أو يجيب، كان ذلك مثار فتنة لغيره، ثم كان موضع تهمة له بأنه يتصنع المرض أو الضعف، حتى يتحلل من الاستجابة للجهاد الذي يدعوه إليه ولى الأمر..
وكذلك الشأن في الإنفاق في سبيل الله، وهو أنه من الواجب أن ينفق المرء في سبيل الله من غير دعوة، فإذا دعى من ولىّ الأمر كان عليه أن يجيب، وأن يقدم المطلوب منه، من زكاة أو نحوها..
وقوله تعالى: {خيْرا لِأنْفُسِكُمْ}.
يجوز أن يكون مفعولا به للفعل {أنفقوا} أي أنفقوا مالا، أو نحوه، مما هو خير، ونافع، ويكون الجار والمجرور {لأنفسكم} متعلقا بقوله تعالى: {خيرا} أي أنفقوا خيرا لأجل أنفسكم.. وعبّر عما ينفق بلفظ الخير، لأنه خير في ذاته، وهو خير لمن ينفق من أجله، وهو خير لمن ينفقه..
ويجوز أن يكون {خيرا} منصوبا بفعل مضمر، تقديره أنفقوا وقدموا خيرا لأنفسكم من أموالكم.
وقوله تعالى: {ومنْ يُوق شُحّ نفْسِهِ فأُولئِك هُمُ الْمُفْلِحُون}.
هو تحريض على البذل والإنفاق في سبيل الله، وتحذير من الشحّ، والضنّ بالبذل والسخاء في وجوه الخير.. فإن من وقى نفسه شرّ هذا الداء، داء الشحّ، كان من المفلحين، حيث إن البخل، لا يكون إلّا من نفس استهلكها حبّ المال، فضنت به عن الإنفاق في قضاء الحقوق، وفي أداء الواجبات لذوى القربى، والفُقراء والمساكين.. ثم ذهب بها هذا الحرص، إلى اكتساب المال من كلّ وجه، في غير تحرّج أو تأثّم، فإن حبّ المال يعمى ويصم! فأقرب الناس إلى السلامة، وأدناهم إلى الفلاح من خلص بنفسه من ربقة العبوديّة للمال، ومن حبائل فتنته.. كما يقول سبحانه: {إنّما أمْوالُكُمْ وأوْلادُكُمْ فِتْنةٌ}.. فإذا تحرر الإنسان من هذا الداء، واستعلى على هذه الفتنة، استقام له طريقه في الحياة، فكان من المفلحين في الدنيا والآخرة جميعا.
قوله تعالى: {إِنْ تُقْرِضُوا الله قرْضا حسنا يُضاعِفْهُ لكُمْ ويغْفِرْ لكُمْ والله شكُورٌ حلِيمٌ}.
هو إغراء بالإنفاق في سبيل الله، وإعلاء لشأن المنفق، ورفع لقدره، حتى إنه ليقف بين يدى خالقه والمنعم عليه موقف المقرض، الدائن.. فما أعظم فضل الله، وما أوسع إحسانه.. إنه يعطى، ثم يستقرض مما أعطى!! والله سبحانه غنىّ غنى مطلقا عن هذا القرض الذي يقترضه، لأن هذا الذي يقترضه، هو ملك له، وفضل من فضله، ولو كان في حاجة إلى أن يقترض، لأمسك هذا الذي يقترضه.. تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.. ولكن هذا العطاء، ثم الاقتراض منه، هو تكريم للإنسان، وإحسان إليه، حتى ينال بما ينفق من مال الله ثواب الله في الآخرة وحسن الجزاء في الدنيا، بما يضاعف للمنفق ما أنفق، كما يقول سبحانه: {يمْحقُ الله الرِّبا ويُرْبِي الصّدقاتِ} (276: البقرة) وكما يقول جل شأنه: {منْ ذا الّذِي يُقْرِضُ الله قرْضا حسنا فيُضاعِفهُ لهُ أضْعافا كثِيرة والله يقْبِضُ ويبْصُطُ} (245: البقرة).
والقرض الحسن: هو الذي ينفق في سبيل، الله عن رضا نفس، وانشراح صدر، والذي لا يتبعه منّ ولا أذى.
قوله تعالى: {والله شكُورٌ حلِيمٌ}.
أي أنه سبحانه عظيم الشكر لمن يقرضه، وينفق في سبيله، فيجزيه الجزاء الحسن على ما أنفق، وهو سبحانه {حليم} لا يعجل بعقاب الذين يضنون ويبخلون بما آتاهم الله من فضله، فلا يقطع عنهم أمداد نعمه وإحسانه، في هذه الدنيا، بل يمدّ لهم في العطاء، ولا يعجّل لهم الموت حتى يستوفوا آجالهم، وحتى تكون بين أيديهم فرصة للمراجعة، والمصالحة مع الله.. فإن هم لم يصلحوا أمرهم، وماتوا على ما هم عليه من الشحّ والبخل، والضنّ بحقوق الله- كان إلى الله حسابهم، فإن شاء عفا ورحم، وإن شاء عاقب وانتقم.
قوله تعالى: {عالِمُ الْغيْبِ والشّهادةِ الْعزِيزُ الْحكِيمُ}.
هو معطوف عطف بيان على قوله تعالى: {والله شكُورٌ حلِيمٌ}.
أي هو سبحانه شكور حليم، وهو عالم الغيب والشهادة، وهو العزيز الحكيم..
فهذه صفات الله سبحانه التي يتعامل بها مع عباده الذين يقرضونه.. إنه سبحانه يشكر للمنفقين ما أنفقوا ويضاعف للمقرضين ما أقرضوا، ولا يعاجل المقصرين منهم في الإنفاق، العذاب، بل يمهلهم، ويدع لهم فسحة من الوقت حتى تنتهى أعمارهم في هذه الدنيا، ليكون لهم في هذه الفسحة مجال لتصحيح موقفهم، واللحاق بالمنفقين الذين سبقوهم إلى رضوان الله.. وهو سبحانه مطلع على سرهم وجهرهم، عالم بما أنفقوه، وما يخلوا به.. وهو سبحانه {العزيز} الذي هو مستغن بعزته عن إنفاق المنفقين، وعون المعينين، وهو {الحكيم} الذي يقيم موازين الناس بالحكمة والعدل، ويضع كل إنسان بمكانه الذي هو أهل له.. اهـ.